كيف نجح شباب الثورة فيما عجز عنه الآخرون؟
وال-القراءة المتعمّقة في تجربة شباب الثورة المصرية ما زالت مبكِرَة. فالشباب أبدعوا ما يدهش العقول في التنظيم وسعة الأفق، ومن المؤكد أن إبداعهم سيلهب بنات جنّ الكثير من الروائيين والفنانين والسينمائيين، ويعقلن الكثير من ادعاءات الباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية. لكن شباب الثورة يتعرّضون اليوم إلى جملة من الإسقاطات تهبط على رؤوسهم من التيارات السياسية والفكرية والثقافية الخائفة من الثورة والمتعاطفة معها على حدّ سواء. فالحدث الذي وجد شباب الثورة أنفسهم على رأسه هو زلزال تاريخي بمقياس الثورات التاريخية الكبرى التي هزّت العالم. والحالة هذه من الطبيعي أن تشغل الثورة هموم الخائفين من الارتدادات المقبلة والمتعاطفين معها، طالما أن الثورة في مصر تهزّ الإستراتيجيات الدولية والإقليمية وتعيد النظر في الستاتيكو المصري ــ الإقليمي عاجلاً أم آجلاً. إنما من الطبيعي أن تهزّ أيضاً تصورات ورؤى التيارات السياسية والفكرية والثقافية العربية الخائفة والمتعاطفة سواء بسواء. فما من تيار سياسي أو فكري وثقافي عربي يستطيع القول، بقليل من الجدّية والمسؤولية، «جاءت الأحداث تؤكد صحة توجهاتنا». فالأحداث جاءت تؤكد هراء الكثير من رؤى وتصورات هذه التيارات، بل تؤكد صدأ الكثير من مفاتيحها الأساس. لكن يبدو أن الثورة التي تهزّ العالم لا تستطيع في وقت قريب أن تهزّ حسّ المسؤولية الذاتية في هذه التيارات على اختلاف مشاربها. والأدهى أنها على اختلاف مشاربها تحاول الإيحاء أن الثورة تصبّ في طاحونها محذّرة سلطات الحكم في العالم العربي والإسلامي من المصير نفسه إذا لم تتعظ. ويدلّ هذا الإيحاء الموارب على أن هذه التيارات لا تريد أن تتعلم الدرس الأول من تجربة شباب الثورة كيف تتعظ سلطات الحكم. ويدلّ كذلك على أنها لا تريد أن تتعظ من التجربة في مساءلة نفسها لماذا وكيف نجحت حفنة من الشباب «العفويين» فيما عجزت عنه نخب التيارات السياسية والفكرية والثقافية في ادعاءاتها.
هي حفنة من الشباب لا يتعدّى عدد أفرادها بضع عشرات في بلد يتجاوز عدد سكانه 83 مليون نسمة. وهؤلاء الشباب هم في مقتبل العمر مثل حوالى 50% من مجمل السكان. وهم في معظمهم «غير مسيّسين» بمعنى مقولات التيارات السياسية والفكرية والثقافية العربية في مقاربة التغيير عبر التعايش مع قواعد السلطة والمراهنة على إقامة سلطة محل سلطة. لكنهم مسيّسون بمعنى ثقافة سياسية تقارب التغيير في المجتمع المدني بديلاً عن قواعد السلطة، من أجل إنشاء قواعد جديدة في دولة مستقلة عن سلطة الحكم. ولم ينشغل شباب الثورة مطلقاً في تحليل أقوال الصحف ولا في مدد الأطروحات التي تعيد وتزيد شرح واقع مقفل بالاستبداد والفساد والتبعية. لكنهم انشغلوا في البحث عن تفكيك واقع مأزوم لا يمكن أن يكون مقفلاً إلاّ إذا تعايشت معه نُخب التيارات السياسية والثقافية وساهمت في إقفاله. ولم يتسنَّ لهم، لحسن الحظ، التبحّر في مقولات تأسيس «العقل العربي» على الاستبداد الشرقي وخطيئة جهل أصلي في «المؤسسات والقانون». فقد اقتنعوا أن «عقل الناس» خلافاً لعقل سلطات الحكم والنُخب المتعايشة معها، مثل عقل أرقى بقية خلق الله في المدنيّة والحضارة وأن على النُخب أن ترتقي في تجاربها ومعارفها كي تكتشف «ميكانيزمات» هذه المدنيّة الحضارية في مسار مجتمعي. ولم يطّلع شباب الثورة على ادعاءات جهابذة التيارات السياسية والفكرية في تخلّف بسطاء الناس وانقسامهم إلى طوائف وجماعات عصبيّة غريزيّة. ولم يخطر في بالهم المراهنة على إعادة الناس إلى مقاعد الدراسة الابتدائية ينهلوا من علم الجهابذة معرفة في طقوس المواطنَة وحريّة الفرد والشأن العام، أو أي معرفة أخرى في تهذيب السلوك. فقد أدركوا أن الناس على ما هم عليه في واقعهم المخزون والمُعاش مارد يصنع الأعاجيب المذهلة إذا تحمّلت النُخب السياسية والثقافية مسؤوليتها وأثبتت صدقيتها. وقد أثبت شباب الثورة قبل «25 يناير» في كل مبادراتهم صدقية عظيمة الرقي والتفاني في أنهم لا يستغلّون عذابات الناس طمعاً بالانتفاع في النفوذ وفتات امتيازات السلطة أو من أجل الوصول إلى السلطة. ولم يُثنهم القمع منذ أن نشط معظمهم في الحركة الطلابية والروابط المهنية عن الاستمرار في تحمّل المسؤولية خاصة بعد جريمة قتل شهيدهم الأول خالد سعيد في يونيوــ تموز الماضي على عتبة منزله إثر تصوير عملية ارتشاء أمن السلطة في الإسكندرية.
والحقيقة أن ثقافة عدم استغلال عذابات الناس من أجل الانتفاع أو المكانة والنفوذ، في مشاركة السلطة والطمع بالسلطة على أي مستوى من المستويات، هي النقطة والفاصلة بين «عفوية» شباب الثورة و«عقلانية» التيارات السياسية والثقافية العربية. فالشباب شديدو الحساسية المفرطة تجاه أي شكل من أشكال السلطة سواء أكانت سلطة الحكم أم قيادة التيارات السياسية والثقافية العربية أم بين بعضهم البعض. وليست هذه الحساسية المفرطة هي نتيجة التحوّط وفقدان الثقة فحسب، بل هي ثقافة أسلوب عمل تحكمه قاعدتان: 1 ــ الانتماء إلى وظيفة المجتمع المدني في المراقبة والضغط واقتراح الحلول مقابل سياسات السلطة. وهذه الوظيفة هي سلطة معنوية تتنامى بمقدار ابتعادها عن سلطة الحكم وعن أي إغراءات أو نُتف امتيازات المكانة وشتى أنواع النفوذ والمصالح الخاصة. وهي بطبيعة دورها ليست «عقلانية» في التعايش مع السلطة ولا تطمح إلى المشاركة في السلطة أو الوصول إلى الحكم، خلافاً لوظيفة الأحزاب والتيارات السياسية والثقافية. 2 ــ المساهمة من موقعها في السلطة المعنوية المقابلة لسلطة الحكم، في الطموح إلى إرساء قواعد دولة منفصلة عن سلطة الحكم. وفي هذا المعنى تميل ثقافة شباب الثورة إلى أسلوب عمل الديموقراطية التشاركية في الاحتكام إلى القاعدة العريضة في كل قرار، لا الديموقراطية التمثيلية في تفويض قيادة مُنتخبَة تقرر وتقود. وقد حكمت هاتان القاعدتان أسلوب عمل شباب الثورة منذ بداية حراكهم قبل خمس سنوات وأثناء قيادة الثورة وما زالتا تحكمه بعد رحيل مبارك. فـ«الفايسبوك» الذي أخذته إسقاطات التيارات السياسية والثقافية العربية على محمل عجائب التقانة الحديثة في توعية الناس وتفجير الثورة ما أن يطلّ شباب الوعي الحديث على حصان أبيض، لم يكن غير أداة تنظيم أسلوب العمل بين الشباب أنفسهم الذي تحكمه قاعدتان في وظيفة المجتمع المدني والديموقراطية التشاركية. وقبلها كانت «حملة طرق الأبواب» وحملات شعبية كثيرة وكان يحق لكل شاب وشابة أن يطلق مبادرة للحوار في لقاءات مجموعة صغيرة أو في لقاءات الجماعة الأوسع على «الفايسبوك». وما أن تتبنى جماعة ما المبادرة كاملة أو بعد تعديلها حتى تصبح ملكاً مشتركاً لا يحق لأحد حرية التصرّف فيها أو تمثيل الجماعة في شؤونها. ولا يحق لأحد القيادة فالجماعة تقرر وكل فرد فيها يقود. وقد ظلّ أسلوب العمل هذا محصوراً بين الشباب أنفسهم يحكم قواعد نشاطهم ولم ينتقل إلى الشعب في تفجير ثورة «25 يناير»، لكنه حمى الثورة من الإجهاض أثناء محاولة السلطة والأحزاب و«لجان الحكماء» الإلتفاف على الثورة في أحلك اللحظات الحاسمة.
والشرارة التي فجّرت الثورة يوم 25 يناير هي من أثر نجاح الثورة في تونس ورحيل ابن علي، وهو أثر انتقال نموذج ثوري من شعب إلى شعب دون وسيط. والمفارقة أن أحزاب المعارضة لم تشعر بحمى انتقال الشرارة لكن المنظمات الشبابية التي دعت إلى التظاهر مجتمعة مع حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير شعرت أثناء التحضير للتظاهر أن الإقبال الشعبي يختلف جذرياً عن المرّات السابقة، حين كان الحشد لا يتجاوز بضع مئات. والمفارقة الأخرى أن شباب الثورة كانوا، نتيجة أسلوب عملهم في ثقافة القطيعة مع السلطة، جاهزين إلى جانب الناس للذهاب إلى أبعد مدى ممكن في تغيير قواعد الحكم والدولة. وعلى عكسهم لم تكن التيارات السياسية والثقافية المعارِضة (عدا بعض الشخصيات) جاهزة بسبب الإرث التاريخي في المراهنة على بعض الإصلاحات في الدستور التي تتيح لها المشاركة بالسلطة في إطار نظام الحكم. وهذه المفارقة كادت أن تطيح بالثورة في أصعب اللحظات الحرجة لولا أن أثبت أسلوب عمل الشباب في هذه اللحظات مناعة خارقة في الاحتكام إلى جمهور الناس لحماية استمرار الثورة والوصول بها إلى عتبة الأمان. ففي الأيام الثلاثة الأولى لم يكن شباب الثورة قادرين على مجابهة قوى الثورة المضادة التي أطلقها حسني مبارك في خطاب «أموت على أرضها». فجمهور الناس هو الذي تصدّى بالأيادي العارية لعصابات الشرطة والأمن المركزي والمخابرات العامة، وهو الذي تصدى بعدها إلى عصابات «البلطجية» وردّ على الفوضى الدموية بتنظيم اللجان الشعبية لحماية الأرواح والأحياء والممتلكات العامة على غرار نموذج ثورة تونس. ثم دافع الناس عن استمرار الثورة في «واقعة الجمل» وكانت لم تزل التيارات السياسية والثقافية في الميدان إلى جانب شباب الثورة. لكن الشباب انتزعوا شرعية القيادة بعد تنصيب عمر سليمان وهرولة الأحزاب و«لجان الحكماء» إلى الحوار مع النظام. فقد التقت جميعها على إجهاض الثورة إلى جانب النظام في أحلك اللحظات طمعاً بمصالح ضيّقة خاصة. والأحزاب التي لم تجلس إلى طاولة الحوار وضعت رجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة، ناهيك أن أحد أحزاب الجالسين أعلن وقف الحوار عشية رحيل مبارك. وفي هذه الظروف المأساوية التي كادت أن تطيح بالثورة لم تستطع السلطة ولا الأحزاب و«لجان الحكماء» تركيب قيادة تمثّل الشباب في الحوار والتفاوض، فأسلوب عملهم لا يتيح اختيار قيادة ولا يتيح التمثيل. كما أن أسلوب عملهم يحتّم عليهم العودة إلى جمهور الناس في اتخاذ القرار وكان رد الناس في تصعيد الثورة على ما هو معروف حتى رحيل مبارك.
والحال، رحل مبارك وسقطت السلطة لكن النظام لم يسقط بعد. فما زالت قوى الثورة المضادة تّمسك بمفاتيح النظام في بقايا السلطة الأمنية ومؤسسات وإدارات الدولة، وفي اقتصاد الفساد والنهب، وفي إرث التبعية إلى مصالح إسرائيل وأميركا وأوروبا، وفي الخراب العظيم الذي تركه مبارك في كل «حتّة». وعظمة شباب الثورة هي في إبداع أسلوب عمل اكتسب شرعية ثورية وصلت بالثورة إلى عتبة الأمان. لكن الأهم أنهم فتحوا أمام الثورة مسارين جنباً إلى جنب في إسقاط النظام القديم وبناء نظام آخر: المسار الأول هو مسار شكل الحكم وإعادة بناء السلطة والتحوّل الديموقراطي في إعادة بناء مؤسسات دولة الحقوق المستقلة عن براثن السلطة. والمسار الآخر هو مسار انطلاق مارد المجتمع المدني في كل موقع وقطاع ومهنة وحيّ ومنزل.... من أجل استعادة الحقوق وتشكيل قوة ضغط ومراقبة وسلطة اقتراح في الحلول. ولا يتنفس هذا المارد هواء نظيفاً دون استقلاله عن السلطة الجديدة والعمل على تفكيك تبعية سبل العمران وأسباب المعاش إلى مصالح دول «المجتمع الدولي» وإسرائيل، وإعادة بنائها في محيطها الإقليمي محل الفراغ العربي الذي تحتله إسرائيل وأميركا وأوروبا.
لقد هزّت الثورة ستاتيكو مصري ــ إقليمي آسناً في تبعيته إلى إسرائيل ودول «المجتمع الدولي». وهزّت كذلك تصورات ومقولات التيارات السياسية والثقافية العربية في تشقيف حقوق الناس إلى شقفة وطنية ضد التبعية وشقفة اجتماعية وشقفة حريات سياسية وديموقراطية. هي ثورة «عيش وحرية وكرامة إنسانية» وقد فتحت باب عصر جديد في مسار دولة الحقوق المستقلة عن السلطة الحاكمة، وفي مسار سلطة المجتمع المدني مقابل سلطة الحكم.
قاسم عز الدين
السفير.
الأحد مايو 13, 2012 7:31 pm من طرف timo_love
» ارجوا المساعدة الشاذلى من مركزاسنا
السبت يناير 21, 2012 8:52 pm من طرف ali rawa
» ارجوا المساعدة الشاذلى من مركزاسنا
السبت يناير 21, 2012 8:47 pm من طرف ali rawa
» ارجواالافادة الشاذلىمن اسنا
السبت يناير 21, 2012 8:37 pm من طرف ali rawa
» ارجواالافادة الشاذلىمن اسنا
السبت يناير 21, 2012 8:36 pm من طرف ali rawa
» اثار اسنا
السبت يناير 21, 2012 8:33 pm من طرف ali rawa
» افتتاح الحديقة الدائرية للمواطنين فى اسنا
الثلاثاء نوفمبر 29, 2011 6:25 pm من طرف العمده عبدالله الاسناوى
» دعوة لدعم المرشحين
الإثنين نوفمبر 07, 2011 12:58 pm من طرف ابويوسف الاسناوى
» نصيحة غالية لمدرسى الصف الأول الإبتدائى
الأربعاء أكتوبر 12, 2011 7:04 pm من طرف العمده عبدالله الاسناوى